(الحلقة مئتان وإحدى وستون)
بُلبُل الغرام
قد تسمع
باسم (بُلبُل الغرام) فتحسب أنَّه اسمٌ لطائر من طيور الحبِّ، أو لطائرٍ غِرِّيدٍ
كالكناري والحَسُّون والهزار وأمثال ذلك، ولا يخطر على بالك أنَّه لقبٌ للشَّاعر
حسام الدِّين بن سنجر بن بهرام الحاجريِّ من شعراء الدَّوْلة الأيُّوبيَّة في
القرنيْن السَّادس والسَّابع الهجريَّيْن، وهو شاعر تركيُّ الأصل من أهل (أربيل)
إلَّا أنَّه نُسِب إلى بلدة (حاجر) في الحجاز؛ لأنَّه أكثر من ذكرها في شعره، وقد
اتَّسم شعر هذا الشاعر بحسن المعاني، ورقة الألفاظ، وجمال العبارات،
وحسن التَّأتِّي، ودقَّة الوصف كما في هذه المقدمة الغزليَّة الرَّائقة:
... لله صـبٌّ بـالعــراق مـتـيَّـمٌ ظامٍ
إلـى ماء الـمُحـصَّبِ صادي
يشتاق من بـغـدادَ بـانَ طُوَيْـلِعٍ
هـيْـهاتَ أيْـن الـبــانُ من بَـغــدادِ
كلُّ الـمـنازل والـبلادِ عـزيـزةٌ
عِــندي ولا كـمَـواطـني وبـلادي
ومُرنَّحِ الأعطافِ تحسده القـنا
عِـــنـد اهْــتـزاز قَـوامِـه الـمَـيَّـادِ
صَنمٌ أبـاحَ ليَ الـضَّلالة وَجهُهُ
ومن العجائـب أنْ يـضِلَّ الـهادي
يـا أيُّـهـا الـرَّشأُ الَّـذي
بـلحـاظهِ دَعَـجٌ يَـصـولُ بـهِ عـلى الآســادِ
اللهَ في كـبِـدي الَّـتي
أحـَرقـتَـها عــبَـثًـا بـجَــمْـرَةِ خــدِّكَ الـوقَّــادِ...
واستمع إلى هذه المقطوعة اللَّطيفة
وكيف تنثال الألفاظ فيها انثيالًا، وتجود فيها المعاني معبِّرةً عمَّا يعتمل في
ذات الشَّاعر من الشَّوْق إلى المحبوبة، ومن مشاعر الحب والعشق والهُيام حين يقول:
جَـسَـدٌ ناحـلٌ وقـلـبٌ جـريـحُ
ودمـوعٌ عـلى الخـدودِ تـسـيحُ
وحبيبٌ مُـرُّ الـتَّجَـنِّي ولـكـنْ
كـلُّ ما يـفـعـلُ الـمَلـيحُ مَلـيـحُ
يا خليَّ الفؤادِ قد ملأ الـوَجـــــدُ
فــؤادي وبــرَّحَ الـتَّـبـريـحُ
جُدْ بوَصلٍ أحيا به أو بهجرٍ فـيه
مَـوْتي لعـلَّـني أستـريـحُ
أنتَ للقلب في المكانة قـلبٌ ولروحي
على الحقيقةِ روحُ
والشَّاعر يرى أنَّ على المرء أن
يقتنص الفرص ليسعد، فإذا صفا له الزَّمان، وأسعفه سنُّ الشَّباب وجمال الطبيعة
الَّتي تصدح فيها الأطيار، والصَّديق الصَّدوق، والنَّديم المؤنس، فعليه أن يسعد
بهذا أيَّما سعادة قبل أن ينقلب عليه الزَّمان وينصرف عنه الخلَّان:
مُولعٌ بالهوى وفرطِ التَّصابي ليس
يخلو من لـوْعةٍ واكـتـئابِ...
ولَعَـمْـري لـقـد يـهـونُ عـلـيهِ
كـلُّ شـيْءٍ إلَّا فــراقَ الـشَّـبـابِ
فـإذا أمـكَــنَـتْـكَ فـرصةُ لـهْـوٍ
فـاقـتَـدِح من زنـادِهـا بـشِـهـاب
وتغـنَّـمْ صفْـوَ الـزَّمانِ فـإنَّ
الــعُـمْـرَ إنْ طالَ لـمْعَةٌ من سَرابِ
بين أرضٍ مبسوطةٍ من رياضٍ وسـماءٍ
مـرفـوعةٍ من سَـحـابِ
وقِــيـانٍ مـن الـحَــمـام
تُـغـــنِّـي باتِّـفـاٍق في لـحنِها واصطحابِ
ونـديـمٍ صـافٍ عـلى كـدَرِ الـدَّهــرِ
سلـيـمٍ من شُـبْـهةٍ وارْتــيابِ
جـرِّبِ الـنَّاسَ فـالـصَّديـُق
قـلـيـلٌ فـيهـمُ والـقـلوُب ذاتُ انْـقـلابِ
سألت صديقي: أليس بلبل الغرام هو
القائل؟
وقد علمتُ وخيْرُ القوْلِ أنفعُهُ
أنَّ السَّعيدَ الَّذي يَنجو من النَّارِ
فقال: بلى.
الأستاذ: محمد عصام علوش ـ سوريا ـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق