أعلان الهيدر

للنشر في مدونة محكمة النقد يرجى إرسال المادة مرفقة بالصورة على العنوان الآتي :
lagrahocine@gmail.com
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك.

الأحد، 21 فبراير 2016

الرئيسية ـ جنازة مومس ...بقلم : لطفي حمدان

ـ جنازة مومس ...بقلم : لطفي حمدان

بقلم : لطفي حمدان
ـ جنازة مومس

كان الشابان يسيران في شوارع المدينة متسكعين لا يقصدان وجهة بعينها، ولا يتوقفان عن المسير كأنّما يقصدان مكانا ما، وهنا يتجاذبان أطراف الحديث المتشعّب، وأصبحا يتنقّلان من موضوع إلى آخر لا يستقرّان على مجال واحد للحديث، حتّى وجدا نفسيهما داخل أحياء وأزقّة قديمة، وبين منازل تكاد تقع فوق رؤوس أصحابها، فتساءل أحدهما:

ــ هل يمكن أن يكون داخل هذه البيوت أناس؟!. فأجاب: الآخر: ــ بالطّبع، وإلاّ لما أبقت السّلطات هذه البيوت قائمة على وضعها الرّث.

ـ وهل يعقل أن يكون من بداخل هذه البيوت قد بقيت فيهم ذرّة من إنسانية؟.

ــ وما دخل الإنسانية في الظّروف الحياتية؟!. ــ ألا تعرف أنّ الآدمية إذا لم تُحترم فلن تبقى في نفس صاحبها ذرّة من إنسانية.

ــ وهل يمكن أن تُنزع الإنسانية من نفس إنسان؟. ــ إذا أصبح الإنسان يتصرّف بلا عاطفة ولا كرامة ولا رحمة فقد نزعت من نفسه الإنسانية.

وفجأة وجد الشابان نفسيهما داخل زقاق ضيّق، بناياته رثة، ربّما أكثر ممّا سبق من منازل، وإذا الشباب يروحون ويجيئون داخل هذا الزّقاق، ويظهر على سيماء وجوههم أثر الدّهشة واللّهفة، بل والشهوة أحيانا، وكان الواحد من هؤلاء الشباب يطيل النّظر داخل غرف منثورة على طرفي الزّقاق... وهنا انتبه أحد الشابين إلى هذه الأبواب، فسأل صديقه عنها، فوجده لا يقلّ عنه جهلا بها، فتقدّما وألقيا نظرة اختلط فيها الفضول بشهوة الاطلاع بل وحتى الخوف والوجل، فوجدا منظرا هو آخر ما كان الواحد منهما يفكر فيه، شاهدا امرأة شبه عارية.. بل قل عارية تعرض جسدها وهي تلقي ابتسامات لهؤلاء المارّة، وأحيانا تشير إلى أحدهم بأن يدخل الغرفة، ولا تشير إلى أحد بالدخول إلاّ إذا شاهدت منه شهوة عارمة، وشبقا متملّكا، وهي خبيرة في تحديد هذه الأشياء على الملامح، وكأنّ هذه المرأة تعرض سلعة كالّتي تعرض في الأسواق العاديّة...!!.

انتقل الشابان إلى غرفة أخرى على بعد خطوات فشاهدا نفس المنظر.. ثم الغرفة الّتي تليها، والّتي تليها... وهكذا!!!.فتبادل الشابان نظرة ليست بنظرة استغراب هذه المرّة، بل هي نظرة إعلان كلّ منهما للآخر أنّه فهم الموقف واستوعبه، فتساءل أحدهما:

ــ أهذا هو المكان الّذي سمعنا عنه طويلا؟!!.

ــ يبدو ذلك. ولكن لم أكن أتصوّر أنّه هكذا مجموعة غرف منفصلة .

ــ هذا ما أحسست به أيضا، فقد كنت أعتقد أنّ هذه الأماكن تكون مغلقة، وهي مجموعة غرف تحت سقف واحد.

نعم إنّه (الماخور) أو بيت الدّعارة، وتلك النسوة هنّ المومسات، وكنّ في أحجام وأعمار مختلفة، فمن رشيقة إلى ممتلئة إلى سمينة، ومن شابّة إلى كهلة، ومن جميلة إلى متوسطة الجمال إلى دميمة، ومن شقراء إلى سمراء إلى سوداء..، فكلّ الأعمار والأحجام والأشكال موجودة،...وواصل الشابان التجوال في هذا السوق البشري، وهما مشدودان إلى هذا المنظر لجدّته بالنّسبة إليهما لا مشدودان إلى اللّحم البشري المعروض.

وفجأة شاهد أحدهما عجوزا، قل: تجاوزت السبعين وربّما الثمانين تلتهم سيجارة، وكأنّها تلتهم مع كلّ نفس ثوان من عمرها، أو كأنّها تريد استعجال لحظة نهايته، ثم شاهد عجوزا أخرى، وأخرى، وهكذا...!.

ما هذه العجائز القابعة في مكان كهذا، وما هي المكانة الّتي يحتللنها، بل حتّى ما هي الوظيفة الّتي تشغلنها في هذا المكان، إذ أنّ عجوزا في مثل هذا السنّ، أو حتّى أقلّ بقليل لا يمكن أن تشغل أيّ وظيفة في هذا المكان، فلا هي امرأة لتمارس ما تمارسه النّساء، ولا حتّى هي في تمام قوّتها أو تقوى على الإشراف و الاتفاق مع الزّبائن إذ أنّ النساء اللّواتي يمارسن أقدم مهنة في التاريخ لمّا يصلن إلى سنّ الكهولة، يتوجّهن إلى الإشراف على المكان والاتفاق مع الزّبائن، وغير ذلك، المهم أنّها لا تخرج ثانية إلى المجتمع، إذ أنّ في هذا المكان دنياها ومجتمعها، ودورها المنوط بها، وأخراها أيضا، إذ أنّها لا تغادر هذا المكان إلاّ لمستقرّها الأبدي، وهو القبر....! وفجأة...!!! تبادرت فكرة أو قل خاطرة إلى ذهن أحد هذين الشابين - ولا أعتقد أنّ هذه الفكرة داعبت ذهن أحد زوّار هذا المكان من قبل- فأخذ يحدّث نفسه قائلا:

ــ هذه العجوز- أو هاته العجائز- في أرذل العمر، وإن طال العمر أو قصر فسوف تودّع الحياة، و...!!!

والتفت فجأة إلى صاحبه قائلا له:

ــ ما رأيك لو أنّ إحدى هاته العجائز توفيت في هذا المكان؟!.

لكنّ الغريب أنّ صاحبه لم يستغرب السؤال ولم يستهجنه، وكأنّ حبل الأفكار كان متّصلا بينهما، فكانا يفكران نفس التّفكير، وربّما بنفس التّفاصيل والتّقاسيم, فأجاب على الفور:

ــ بل المهزلة لو تخرج الجنازة من هذا المكان؟!.

ــ بل قل إنّها كوميديا حياتية مغلّفة بغلاف صانع الأحزان وكابح الجبابرة اسمه الموت.

ــ وهل يمكن أن تكون الكوميديا والهزل في رحاب الموت؟

سؤال ليس له جواب في ذهن الشابين، ولافي ذهن أحد من النّاس، مهما بلغ خياله من اتّساع، أو فلسفته من عمق، أو شطحاته من بعد، أو جنونه من هرطقات.

وهكذا لم يجب الشاب على سؤال صديقه، ولم يلحّ صاحب السؤال في طلب الجواب، وكأنّما كان يدرك أنّ هذا السؤال لا يمكن أن نجد له إجابة محدّدة أو دقيقة.

ثم يستطرد أحد هذين الشابين:

ــ تصوّر حينما تخرج جنازة عجوز كهذه من هذا المكان، هل يمكن أن تشعر إحدى هذه المومسات بما يشعر به الإنسان العادي في مثل هذه المواقف حينما يفقد انسانا قريبا منه؟.

ــ وهل يمكن أن تفقد إحدى هؤلاء النّساء حتّى الشعور الغريزي في مثل هذه المواقف..!! فالحيوان نفسه يتأثّر- ويظهر عليه ذلك- حينما يفقد حيوانا آخر يقاسمه المكان والمأكل والمشرب.

ــ هذه غرائز!! حتّى التماسيح تذرف الدّموع حينما تتناول فريستها.

ــ لكن هؤلاء لسن تماسيحا أو حيوانات، بل هنّ من بني البشر، بيد أنّ التّماسيح لم تخالف طبيعتها الّتي خلقت معها، لكنّ هؤلاء العاهرات يتكسّبن من بيع أنفسهنّ, وكلّ الشّرائع والفلسفات والسّياسات والقوانين السماويّة والأرضيّة قد حرّمت بيع الإنسان لأخيه الإنسان، فكيف تسمح هذه الإنسانيّة ببيع الإنسان لنفسه؟!!.

ــ بهذا المنطق فتجّار المخدّرات واللصوص والمزوّرين والمختلسين كلّهم باعوا أنفسهم، ولا يمكن أن يفقد هؤلاء العواطف الّتي يحسّ بها حتّى الحيوان.

ــ هؤلاء باعوا أنفسهم للشّيطان والهوى، لكنّ هاته المومسات بعن أنفسهنّ للرّجال والشّيطان والقوّادين والبادرونات.

دار هذا الحوار السّاذج بين الصّديقين وكان كلّ واحد منهما يريد أن يقنع نفسه بما يقول، لا أن يقنع صاحبه، فكلّ منهما يبدو أنّه هو نفسه غير مقتنع بما يقول، فالمسألة ليست بالأمر الهيّن، فهذه المرأة المومس مهما كانت فهي انسان، حتّى وإن نزلت إلى أسفل مستوى البشر، أو حتّى المخلوقات، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن يطلق صفة الإنسانية على امرأة تقبل أن يفعل بها كلّ شيء، فهي ملك لكلّ رغبات الزبائن السّويّة منها والشاذة، ولا تستطيع حتّى أن تعترض، فضلا عن أن ترفض.

ولك أن تتصوّر الرّغبات الّتي يطلبها روّاد هذه الأماكن، فكلّ ما يمكن تصوّره وما لا يمكن تصوّره يحصل ويحدث في هذا المكان.

وبينما كان الشابّان يطيلان التّفكير في مثل هذه الأشياء وشبهها، ويبنيان قصورا من الخيال، وينسجان أفلاما من الأحداث الغريبة الّتي ربّما لم يستطع أحد تخيّلها إلاّ هذين المخلوقين العجيبين، إذ انبعث صوت أغنية حزينة من إحدى الغرف، فأصغى أحدهما فإذا به يسمع أغنية تتحدّث عن الغربة ومفارقة الأهل والأحباب, فرفع نظرة إلى وجه صاحبة الغرفة، فإذا عيناها تذرفان دموعا غزيرة كالّتي يذرفها الإنسان...!!، إذاً فهذه المومس تشعر بما يشعر به الإنسان، وليس أدلّ على ذلك أكثر من هذه الدّموع الّتي يذرفها الإنسان ـ عادة - للتّعبير عن عاطفة أو شعور أو إحساس- مهما كان- وحينها أدرك هذا الشّاب أنّ هذه المرأة مازالت نفسها تحوي ما تحويه نفوس بقيّة النّاس من أحاسيس ومشاعر، فالتفت إلى صاحبه ليلقي إليه ما أحسّه أو قل ما استوعبه من هذا الموقف، فوجد صاحبه أيضا قد التفت إليه راسما على ملامحه ابتسامة لا تحمل إلاّ معنىً واحدا، وهو أنّ خياله قد شطح إلى ما فكّر فيه هو،.. ألم أقل إنّ حبل الأفكار، متّصل بينهما؟!!.

لقد أدرك الشّابان حينئذ أنّ مثل هذه الأحاسيس لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تُرفع من نفس البشر مهما كانوا، فكأنّ هذه المشاعر و الأحاسيس قد تحوّلت إلى غرائز انسانية، وهو ما يفرّقها عن الغرائز الحيوانية، فالإحساس غريزة انسانية بحتة، لا يشترك فيها إلاّ بني البشر دون بقيّة المخلوقات، أمّا الغرائز الأخرى - والّتي هي ما نسميها دون غيرها غرائز- فهي حيوانية مرتبطة بالجانب البيولوجي أو الجسدي أو التكويني لجسم الإنسان أو تكوين الكائن الحي الّذي تدبّ فيه الرّوح والحياة ... .

وفجأة تقدّمت إحدى هذه المومسات من هذين الشّابين تطلب من أحدهما الدّخول إلى غرفتها- فهي تريد أن تكسب زبونا - تجني من ورائه بعض المال، فرفض الشّاب، فألحّت في الطّلب، وأصرّ هو على الرّفض ... وأمام هذا الإلحاح منها أراد الشّاب أن يبعدها عنه بطريقة ذكيّة، فهمس في أذنها:

ــ إنّني لا أستطيع أن أمارس ما يمارسه الرّجال.

فسألته على الفور:

لماذا؟!

ــ لأنني فاقد الرّجولة(...).

فأجابته على الفور- دون تفكير أو استغراب أو حتى استهجان :

ــ تعال، ادخل إلى الغرفة وستعود إليك رجولتك.

فردّ عليها مؤكّدًا:

ــ أقول لك إنّني فاقد الرّجولة. فماذا تفعلين بي؟.

فابتسمت ابتسامة الواثق وهي تقول:

ــ ليس في الدّنيا رجل- مهما بلغت جرأته أو شجاعته - أن يعترف أمام امرأة أنّه فاقد الرّجولة لو كان كذلك فعلا.

فأسقط في يده لأنّه تعلّم شيئا من مومس لم يتعلّمه من أحد من علماء النّفس أو الفلاسفة أو الفقهاء أو غيرهم...

فأدرك أنّ مثل هاته النّساء يمتلكن عالما له علومه وفقهه وفلسفاته الّتي لا يمكن أن يجدها في عالم آخر، وحينها تذكّر المثل الشّعبي القائل: " إللّي خدم خدمة طاعاتو "، أي من عمل عملا أو اشتغل بمهنة أصبحت طيّعة في يده ويبدع فيها، بيد أنّه اكتشف أنّ هذه المهنة ليست مجرّد صنعة لها تقنيات وقواعد يتّبعها صاحبها بل لها فلسفتها أيضا، ومنظومتها الفكرية الّتي تقوم عليها، فهذه المومس عرفت الرّجل من موطن ضعفه، والّتي يراها هو نقطة قوّته وعنوان الرّجولة والوجود فيه، فهو يأتيها لإرضاء حيوانيته، وغرائزه المجرّدة من كلّ انسانية فيرضي رغبته الدّونية، وترضي حاجتها للمال، فالرّجل المرتاد لهذه الأماكن يستجيب إذاً لرغبات دنيئة ساكنة فيه، وربّما تكون ولدت معه، أمّا هذه المرأة فهي محتاجة للمال، أو أنّ المجتمع هو الّذي دفعها لأن تعيش هذه الحياة الّتي لا ترضاها من بقيت في نفسها ذرّة انسانية، أو بقيت فيها ذرّة عقل أو تفكير... وربّما من يعرف هذه الأشياء عن هذا العالم يظنّ أنّ هذه المرأة لو لم تكن في حاجة للمال، أولم تكن ضحيّة مجتمع ما، ما سلكت هذا الطّريق، ولكن ما يجب أن يعرفه هذا الّذي يفكّر بهذه الطّريقة أنّ الحاجة لا يمكن أن تخالف الإنسانيّة، فلا يمكن لمخلوق- رجلا كان أو امرأة - أن يفقد انسانيته من أجل حاجة مهما كانت، فالحاجة يفترض أن تدعم الإنسانيّة لأنّها تحتاجها، لا أن تضيّعها وتمحوها...

فإذا كانت هذه المرأة شيطانا فالرّجل الّذي يأتيها شيطان مثلها، وإذا كان هو ملاكا فهي أكثر ملائكيّة منه لأنّها هي من تجلبه إلى عالم الملائكة وليس هو.

إنّه الإنسان!!!. ما هذا العالم، أيمكن أن يكون إنسان إنسانا في عالم كهذا؟؟!!!.

الأستاذ : لطفي حمدان




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.